_مشاهد من الابتلاء_
رحم الله ابن القيم حيث ذكر في كتابه الفوائد:
إنه إذا جرى على العبد قدر يكرهه فإن له فيه ستة مشاهد يمكن إيجازها فيما يأتي:
1ـ مشهد التوحيد:
وجملته أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنه بقدر الله، وما شاء الله فعل.
2ـ مشهد العبودية:
وخلاصته أنك عبد لله تجرى عليك أحكام سيدك ومولاك، ولا تملك إلا السمع والطاعة والخضوع والإنابة والاستسلام والإذعان والانقياد لله رب العالمين.
3ـ مشهد الحكمة:
وغايته أن الله U أحكم الحاكمين، وكل شيء عنده بحكمة بالغة، وأنت قد تجهل الحكمة من وراء ذلك، وقد تغفل عن الخير واليسر الذي يأتي قبله وبعده ولله در من قال: "أن لله عطايا في صورة بلايا " وقد يبتلي الله Uالعبد الصالح ببلاء ثم ابتلاء ثم مصيبة ثم يخرجه من ذلك كله على أوسع ما في الدنيا من مال وسلطان وعز وجاه، فيكون قد نال من حكمة البلاء من التدريب والرضا، والتعلق بالله U والدارالآخرة واحتقار الدنيا وما فيها مما يجعله في حماية من أن تفتنه الدنيا عندما تأتيه.
ومثال ذلك: نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ ابتلاه الله بكراهية إخوته له، ثم إلقاؤه في البئر، ثم يباع في السوق، ثم يعمل في بيت عزيز مصر، ثم محنة امرأة العزيز، والنسوة اللاتي قطعن أيديهن، ثم يخرج من السجن فيولى خزائن الأرض يتصرف فيها كيف يشاء بأمر الله U.قال تعالى
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف 56)
4ـ مشهد الرحمة:
وفحواه أن الله U أرحم بنا من رحمة الأم بولدها فهو ـ سبحانه وتعالى ـ أرحم الراحمين
قال تعالى:{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(فاطر: 2)
ومن رحمته أن البلاء جاءك في هذا الوقت بالذات، وأتى كما كان ولم يكن أشد مما كان، وأنه لم يكن في دينك، فكل مصيبة تهون عدا المصيبة في الدين التي تؤدى إلى جهنم وبئس المصير.
5ـ مشهد الصبر:
ومضمونه أن الله U ابتلانا ليرى مدى صبرنا، وليميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والطيب من الخبيث قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(آل عمران: 179)
6ـ مشهد الرضا:
وجملته أن قدر الله U يجرى على عباده، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وأن الصبر مع الرضا، والصبر مع الشكر والحمد أعلى مراتب الصبر، وهو الصبر المأجور بغير حساب.
فإذا ابتلي العبد المؤمن اقتضى إيمانه أن يريد ما أراد الله تعالى، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية .
جملة من الحقائق يجب الوقوف عليها:
الحقيقة الأولى: أن المؤمن في الدنيا دائما في بلاء إلى أن يلقى اللهU:
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب t:
أن النبي r قال عن المؤمن) :عندما ينزل في القبر) فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ وهي أخر فتنة تعرض على المؤمن ..... " الحديث</SPAN>
وهذا دليل على أ ن المؤمن دائماً معرض للفتن والاختبارات والابتلاءات إلى أن يموت .
فقد أخرج البخاري عن أبى قتادة بن ربعي الأنصارى t:
أنه كان يحدث أن رسول الله r مر عليه بجنازة فقال:"مستريح ومستراح منه " قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه ؟ قال: " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث:
"إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتون به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جائتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان ؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون:دعوه فإنه كان في غم الدنيا".
وصدق النبي r قال كما في صحيح مسلم:
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" (الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 3337خلاصة حكم المحدث: صحيح )
فإذا علم المؤمن هذه الحقيقة يهون عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغم ونكد الهم؛ لأنه يعلم أنه أمر لابد منه فهو من طبيعة هذه الحياة.
وأخرج الإمام مسلم عن أبى هريرة t قال رسول الله r :
"مثل المؤمنكمثل الزرع، لا تزال الرياح تُفِيئُه،ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُسْتَحْصَد".
الأَرْز:بفتح الهمزة وإسكان الراء وبعدها زاي هي شجرة الصنوبر.
وروى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في تاريخه (لم يطبع بعد) عن سعيد بن المسيب –رحمه الله- فقال: دخلنا مقابر المدينة مع علىٍّ بن أبى طـالب tفقام على قبر فـاطمة -عليهما السلام – وانصرف الناس: فقال:
لكل اجتماع من خليلين فرقة.... وإن بقـائي بعدكم لقليـل
وإن افتقادى واحداً بعد واحد.... دليل على أن لا يدوم خليل
أرى علل الدنيـا علىّ كثيرة.... وصاحبها حتى الممات عليل
الحقيقة الثانية:أن الدنيا دار ابتلاء واختبار:
فالدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار، وليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب،وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، والعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع. قال بعضهم:
جبلت على كدر وأنت تريدها.... صفواً من الآلام والأكدار
قال أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله -: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء، انزعاجاًً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت. وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم. كما قال القائل:
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة.... وميت ومولود وبشر وأحزان
وذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال...أو....أو... إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة..
فالدنيا جبلت على النقص والبلوى، فإن أضحكت يوماً أبكت أياماً، وإن سرت شهراً أحزنت دهراً.
فالدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية
كما قال أبو فراس:
المرء رهن مصائب ما تنقضي.... حتى يوسد جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في غـيره.... ومعجل يلقى الردى في نفسه
فما رأينا ولا سمعنا عن أحد لم يصب في هذه الدنيا مصيبة، ولم ينج أحد من الهم والحزن والغم والكرب، لا من الأنبياء والمرسلين ولا من الأولياء والصالحين، ولا من سار على طريقهم واقتفي آثارهم.
فها هو نبي الله نوح –عليه السلام – قال الله تعالى عنه: { فَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الأنبياء: 76) وقال تعالى أيضاً:{ وَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الصافات:76)،
وهذا نبي الله أيوب قال تعالى عنه:{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(الأنبياء: 83)
ولقد لبث بلاؤه ثمان عشرة سنة
ونبي الله يونس قال تعالى عنه:{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء: 87-88)
ونبي الله موسى، قال تعالى عنه:{ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}(طه: 40)
وقال تعالى عنه هو وأخيه هارون: { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الصافات: 115).
وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين - صلى الله تعالى عليهم جمعياً وعلى خاتمهم نبينا محمدr -أصيبوا بالهم والكرب من تكذيب الكافرين لهم وإيذائهم، وجاهدوا في الله وصبروا قال الله تعالى عنهم:{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام: 34)
وقال تعالى أيضاً: { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}(آل عمران: 184)
فرحم الله من اهتدى بهم واقتفي آثارهم وأحسن اتباع النبي محمد r وأطاعه كما أمر الله U فمن رحمه الله تعالى وفضله ومنه أنه قال في كتابه الكريم:{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفي بِاللَّهِ عَلِيماً}(النساء: 69-70).
كما قال أبو الفرج بن الجوزي- رحمه الله-:
ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تُعْتَوَر فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعانى المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له، إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد r وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة، وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه ....
قال أبو العتاهية:
من يعش يكبر ومن يكبر يمت.... والمنايا لا تبالي من أتت
نـحـن فـي دار بـلاء وأذى.... وشقـاء وعنـاء وعنت
منـزلٌ مـا يثبـت الـمرء به... سالماً إلا قليلاً إن ثـبت
وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر وتحت عنوان: كم من حكمة في الحرمان أنه قال - رحمه الله-: نزلت بي شدة، وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة فانزعجت النفس وقلقت 0فصحت بها: ويلك تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة؟ أمدبِّرة أم مُدبَّرة؟ أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك ولم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟ وهل الابتلاء إلا الإعراض، وعكس المقاصد0 فافهمي معنى التكليف، وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب، فلما تدبرت ما قلته، سكنت بعض السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك، ولا تقتضين نفسك بالواجب له وهذا عين الجهل، وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنك مملوكة والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى0فسكنت أكثر من ذلك السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت، كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى أوماسمعت قوله تعالى:
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 -3)
وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أمرهِ يُسْراً} (الطلاق: 4)
أومافهمت أن العكس بالعكس؟ آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني0فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت:وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضررك0
فمثلك كمثل طفل محموم، يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح0
وكيف وقد قال تعالى:{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216)
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة زادت طمأنينتها
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن المطلوب ينقص من أجرك ويحط من مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك0 ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك، فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت
فقالت:لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ فهمت0
الحقيقة الثالثة:وهي أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مسافر والسفر كله مشقة:
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - كما في الفوائد صـ 270:
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، و ليس لهم حطّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبنىّ على المشقة وركوب الأخطار. و من المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، و من المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من أنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
قل متاع الدنيا قليل:
ومع هذا السفر الذي لا يخلو من المشقة، فإننا على يقين من أن الدنيا بكل ما فيها متاع زائل.
قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الحديد: 20)
وقال الله تعالى: { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(النساء: 77)
فالاستمتاع بالدنيا قليل، ومتعتك بها قليل من قليل، و ثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتقى المعاصي وأقبل على الطاعات. فالله تعالى مثل لنا الدنيا كزرع أعجب الزراع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً و ينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية بالحياة الدنيا جميعها فما هي إلا حطام أو كظل وسراب
روى الترمذي و ابن ماجة بإسناد حسن أن رسول اللهr:
قال:"مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح و تركها".
أحلام نوم، أو كظلٍّ زائل.... إن اللبيب بمثلها لا يخدع
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
أشبه الأشياء بالدنيا الظل، تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلص وانقباض، تتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بالدنيا:{ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور: 39)
وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره، فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.
قال بعضهم:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها .... على أنهم فيها عراة و جُوَّعُ
أراهـا و إن كـانت تحب فإنها .... سحابةُ صيفٍ عن قليل تقشع
فالمؤمن هو الذي يعلم أنه مسافر إلى الله، وأن كل ما هو من حطام الدنيا فسوف يتركه لا محالة. إما بالفقر أو بالموت، كما قال تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}(الأنعام: 94)
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
أخذ رسول اللهr بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
و كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، و خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.(صحيح الجامع:4579).
قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث:
لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، و لا بالاعتناء بها، ولا تغتر بها، فإنها غرارة خداعة، ولا تتعلق إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، و بالله فاستعن.
وأخرج ابن ماجة و الطبراني في الكبير والحاكم عن سهل بن سعد الساعدي قال:
جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله، دلني عل عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا، يحبك الله، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس". (صحيح الجامع:922)
وأخرج الترمذى عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللهr:
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء".(صحيح الجامع:5292)
وأخرج ابن ماجة عن أبى هريرة t قال: قال رسول اللهr:
"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلما". (صحيح الجامع:3414)
وأخرج الإمام مسلم و أحمد والترمذي عن عبد الله بن الشخيرt قال:
أتيت رسول الله rوهو يقرأ:" ألهاكم التكاثر" قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن ادم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟".(صحيح الجامع:8132).
وأخرج مسلم عن أبى سعيد الخضري tقال: قال رسول اللهr:
"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء".
فالدنيا فانية زائلة، و كل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول، لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، و أمل يحققه بإذن الله عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يجزى كل أمريء بما فعل، إنها الدنيا كلما حلت أوحلت، وكلما كست أوكست، وكلما دنت أودنت، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات.
هي الأيـام لا يبقى عزيز.... وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليكم نجم.... وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متعت كثيراً منعت طويلاً، لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور.
فلا بد أن نعلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً، فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول البلاء{ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: 23).
بل إن المؤمن يعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن ما يزرعه هنا فسوف يحصده هناك، ولذا قال تعالى:{ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة: 197).
وقـفـة :
حضر أحد الرؤساء صلاة الجمعة، وبه مرض لا يحتمل معه تطويل الخطبة،ثم صعد الخطيب المنبر، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبداًنكم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فما أبلغ هذه الخطبة وأفصحها وأوجزها، فممر الدنيا والله قصير وأغنى الأغنياء فيها فقير، فعلى الإنسان أن يستيقظ من رقدة الغفلة وينتبه من السكرة، ويقلع حب الدنيا من قلبه، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة، فيقال له: كلا.
أخرج الطيالسي و البيهقي في الشعب بسند صحيح عن جابر قال: قال رسول اللهr:"قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت ، فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك ملاقيه" .(صحيح الجامع:4355)
فحين يصل المؤمن إلى تلك الحقيقة الكبرى ويوقن أنه موقوف بين يدي الله – جل و علا – في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، فإن الدنيا لو سجدت بين يديه لركضها برجليه طامعاً في ساعة واحدة يناجي فيها ربه لعل الله أن يكتب له بها النجاة من تلك النار التي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت. وألف عام حتى اسودت، فهي الآن سوداء قاتمة.
فيعلم المؤمن أن كل نعيم دون الجنة سراب، وكل عذاب دون النار عافية.
فمن بذل وسعه في التفكير التام ، و علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رَحْلَه.
ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات. وهي دار الخلود.
وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها و هو جالس فيها، وكما قال الشاعر:
إنمـا هذه الحيـــاة متـاع.... فالغويّ الشقيّ من يصطفيها
ما مضى فات و المؤمل غيب.... ولك السـاعة التي أنت فيها
ولا بد له في سفره من زاد، و لا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الإنسان و الحرص على العمل الصالح ليجمع زاده لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون. فيقال: كلا.
فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفر آيات يرسلها تخويفاً لعباده. لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، و نهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأي ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه مما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته و يبكي من قسوته.
ولقد قال بعض السلف:
احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقون بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الأجل، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر.
الحقيقة الرابعة:يخبرنا عنها ابن القيم - رحمه الله- كما في عدة الصابرين صـ 90 حيث يقول: لابد أن يعلم المرء أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه، وغناء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه بالفناء، والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف و بعده الخوف.
وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده؛ لأنه يتعقبه ضده وهوسريع الزوال، فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلب من ذلك، و الذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه، و الرسل - صلوات الله و سلامه عليهم - إنما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملك فمن دونهم. أهـ
فمن صبر على مكاره الدنيا و بلائها عوّضه الله خيراً منها جنة نعيمها مقيم وملك لا يبلى ولايزول. فمن صبر على مرارة الدنيا نال حلاوة الآخرة.
وصدق النبي r حيث قال كما في صحيح مسلم من حديث أنس tأن النبيrقال:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" ( أحمد والترمذي و هو في صحيح الجامع:3147)
فصبراً يا أهل البلاء فغمسة في الجنة تنسى كل شقاء وهم وبلاء، وغمسة في النار عياذاً بالله تنسى كل لذة ونعيم.
أخرج مسلم عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r:
"يؤت بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول: لا والله يارب، و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قط، و لا رأيت شدة قط".ـ والصَبغة – بفتح الصاد – أي يغمس غمسة(شرح صحيح مسلم:17/155)
فتأمل كيف أنست الأول شدة العذاب ما مضى عليه من النعيم في الدنيا، و كيف أن الثاني قد نسى ما مرّ به من شدائد و مصائب لما ذاق طعم الجنة.
فسوف تنسى– أخي المبتلى - كل ما كنت تعانيه من آلام و أسقام إذا دخلت دار السلام.
يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في إغاثة اللهفان (2/175):
ومن رحمته سبحانه بعباده أن نغّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
الحقيقة الخامسة: فليعلم أهل البلاء أن الراحة الحقيقة و النعيم المقيم ليس في هذه الدار إنما هو في جنة العزيز الغفار:
فمن يتأمل في كتاب الله يعلم أن أهل الجنّة كانوا أهل حزن في الدنيا، وكان يصيبهم الوصب والنصب واللغوب، قال تعالى عنهم:{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}(فاطر: 34-35).
مع خالص تحياتى
زيزوووووووووو